الكلمات المتقاطعة
لإبراهيم عبد المجيد عن إغلاق النوافذ، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992
كنت تعبت من المشي على الكورنيش طول النهار، وكنت تقريبا شربت كل الهواء النقي الذي يدفع به البحر إلى الشاطئ. إنه يوم مميز أعرفه تماما. يوم خريفي طري مبهج، والنسمة الباردة التي تشيع مع المساء الآن، أستقبلها بملابسي الصيفية فيزيد انتعاشي، ويتركز التعب كله في قدمي، لذلك لا ألوم نفسي على ما فعلت، وسوف أحدث صديقي بذلك حين أقابله. لقد جاء في الصباح الباكر وطلب أن أصحبه في زيارة خاطفة:
لماذا ؟
أنت أصلا من الإسكندرية وتعرفها جيداً.
ولأنه لم يكن هنالك ما يشغلني في القاهرة وافقت. وانطلق بسيارته وأنا جالس بالمقعد المجاور له لا أتكلم. أشعل له سيجارة كل عشر دقائق تقريبا، وأحيانا لنفسي.
في كافيتيريا هابي لاند في طنطا جلسنا. قال :
لا أريد أن أعود.
لكني هيأت نفسي لأقضي اليوم في الإسكندرية.
اعذرني يجب أن أعود.
ليكن.
وما أن جلس بالسيارة حتى سألني :
ألن تعود معي ؟
عد وحدك.
تطلع إلى وجهي قليلا ثم قال :
اعذرني مرة ثانية.
ابتسمت وتابعته بعيني وهو يدور بسيارته عائدا.
في حوالي الثامنة مساء صعدت إلى ديزل التاسعة. مقاعد العربة كلها خالية ويجلس أحد عمال القطار على المقعد الذي يحمل رقم تذكرتي. كان يأكل. أدار المقعد الذي أمامه ووضع فوقه طعاما. لم يكن من اللائق أن أطلب إليه الانتقال. جلست على مقعد بالصف الآخر ووجدت نفسي أتابعه. شراهة غريبة، استغراق كامل أيضا وكميات كبيرة من الجبن والزيتون والطماطم والخبز والخيار. وكان صوت الخيار وهو يقضمه يضايقني جدا. وحين انتهى من الخيار الذي أمامه أخرج كمية أخرى من حقيبة قماشية تحت قدميه. لماذا لم أبتعد ؟ لا أعرف. ظللت أتابعه حتى كادت ساعة كاملة تنقضي حاولت فيها ألا أنفجر غيظا من صوت قضم الخيار .. لكن ذلك كله انتهى، وتنفست بارتياح، ونهض هو ليعيد المقعد الأمامي، وبدأت في حل الكلمات المتقاطعة لجريدة المساء، فهي تقريبا أسهل ما ينشر في الصحف.
أنا أحب السفر في الديزل وأكره السيارات. في الديزل تستطيع حل كل الكلمات المتقاطعة بكل الصحف فتقتل الوقت والطريق معا. يقولون إنك تستطيع القراءة في الديزل أيضا. أنا لا أستطيع، ولا أقرأ حتى الصحف التي أحل كلماتها، لذلك لا تجد معي صحف المعارضة، وليس لموقف ما، لكن لأنه لا توجد بها كلمات متقاطعة. هذه مسألة كثيرا ما فكرت فيها، وكثيرا أيضا، وبجد، ما قررت أن أرسل خطابا لكل حزب معارض أطلب فيه أن تتضمن صحيفته الكلمات المتقاطعة. وبالطبع لم أفعل. والسبب أنني منذ سنوات كنت أعيش في غرفة مفروشة بدير الملاك، وكان لي صديق أعطيه الخطابات التي أريد إرسالها لأي مكان في يده مباشرة حتى أضمن وصولها. الآن أعيش في الهرم وليس لي صديق في أي مكتب بريد بالجيزة كلها. منذ عشر سنوات قبل أن أترك الإسكندرية كنت أعيش في ضاحية المكس الجميلة وألقي بخطابات البريد في صندوق مغلق على جدار كازينو زفير. في عصر أحد الأيام شاهدت الصبية والأطفال يفتحون الصندوق من أسفل.
حضرتك حاجز. ؟
تساءل وهو يقف في الطرقة مبتسما ابتسامة واسعة وقد تألق وجهه الأسمر بصفاء غريب. أدركت على الفور أنه حجز المقعد المجاور للنافذة، هذا الذي جلست فوقه. قلت :
أجل، لكن هذا ليس بمقعدي.
ونهضت أنتقل إلى المقعد المجاور فاصطدمت فخذي بالذراع الذي يفصل بين المقعدين. ضايقني الألم.
آسف. آسف جدا. القطار خال وسأجلس في الخلف.
- قال وتراجع على الفور لكني كنت تضايقت للغاية، فأخذت أرفع أشيائي من الشبكة لأضعها في الشبكة المجاورة وأقول لنفسي إن مقعدا بجانب النافذة لا يجب التفريط فيه لأن الإنسان يستطيع أن يضع خده على جانب القطار وينام. لابد إذن أن يعود هذا الشاب غريب الابتسام إلى مقعده، فالركاب يتوافدون الآن، واقترب موعد المغادرة.