عدت أحل الكلمات المتقاطعة لكني وجدت أن جريدة المساء قد غيرت نهجها فإذا بالكلمات المتقاطعة حافلة بأسماء من نوع "ابن خوفو" و"أخت رمسيس" و"زوجة الذي بنى معبد الأقصر" و"زوج حتشبسوت" وقائمة طويلة من الأسماء العائلية الفرعونية، ولم أجد نفسي أعرف إلا إله الشر فكتبت "ست" وطويت الصفحة ..
ممكن ؟
كان هو نفسه يطلب أن أفسح له الطريق إلى مقعده بعد أن امتلأ القطار بالصاعدين من محطة سيدي جابر، بدا لي أيضا شديد الأدب، لكن ما أن جلس حتى تناولت صحيفة الجمهورية وبسرعة فتحتها على صفحة الكلمات المتقاطعة. خفت –لا أعرف لماذا- أن يدخل معي في حديث من أي نوع. هذه البهجة الشديدة التي تنتشر في عينيه ووجهه حين يتكلم لم أعهدها في أحد من قبل. لحسن حظي عاد بظهر المقعد إلى الخلف وبدا أنه سينام.
ابتعد القطار عن الإسكندرية كثيرا. العربة مضيئة والحقول على الجانبين مظلمة، وأنظر من خلف زجاج النافذة فأرى خيالنا يتكرر على الجهتين فأكاد أصدق أن هناك ثلاثة قطارات تجري متجاورة.
ممكن الأهرام ؟
سألني وقد قفزت البهجة العارمة إلى وجهه. فكرت ربما هذا حاله دائما حين يتكلم. لكني لم أرد. أشرت إلى الصحف التي بالشبكة فمد يده يسحب الأهرام وعدت أنا للكلمات المتقاطعة. بسرعة انتهيت فطويت صحيفة الجمهورية وتناولت الأخبار. ما كدنا نصل إلى دمنهور حتى كنت انتهيت من كلمات الأخبار أيضا فطويتها وتناولت مجلة المصور لكني كنت في حاجة إلى سيجارة. مددت يدي إلى علبة سجائري فوجدته يسبقني ويقدم لي سيجارة. رفضتها بشدة سخيفة تشي بأني أقطع عليه كل طريق. وبأدب، وربما خوف أيضا، تراجع، لكنه لم يشعل لنفسه سيجارة. بدأت بحق أتضايق من سلوكي معه، ورأيته يعيد الأهرام إلى الشبكة، وتمنيت أن يطلب غيرها فلم يفعل ..
فكرت في عبث اليوم كله، وأنه ما كان علي أن آتي إلى الإسكندرية أصلا، لأنه في مثل هذه الأيام أيضا يمكن أن يسقط المطر. لكني عدت للكلمات المتقاطعة حتى وصلنا طنطا ..
حضرتك من الإسكندرية ؟
سألني باستحياء شديد. أجبته :
في الأصل. لكني أعيش في القاهرة الآن.
مثلي تماما. تصور لقد حضرت إلى الإسكندرية اليوم فقط.
أنا أيضا فعلت ذلك.
عاد وجهه يتألق وقال :
- لقد ركبت قطارا لعينا. تحرك من القاهرة في الثانية ظهرا ليصل إلى الإسكندرية في السابعة والنصف.
أدركت بحق حجم تعبه. لم يكن لديه غير ساعة يقضي فيها حاجاته. فكرت في نفسي أنا المترف الذي أكملت الرحلة لمجرد أن أستنشق هواء نقيا. لكني لم أشأ أتقدم أكثر فتناولت صحيفة الأهرام وبدأت أحل كلماتها المتقاطعة.
حضرتك ساكن فين ؟
سألني. أجبت :
في امبابة ..
تألق وجهه أكثر.
هل أجد في امبابة شقة بألف جنيه !
تأملته قليلا. قلت :
لن تجد ذلك في أي مكان.
سكتنا قليلا. قال :
معك حق.
وعدنا نسكت. وعاد هو يقول :
صعب أي يعيش الرجل في شقة ملك زوجته أليس كذلك ؟
تحيرت كيف أرد عليه.
أنا أعيش معها في شقة جميلة جدا.
ظللت صامتا. ورأيته يمد يده دون استئذان هذه المرة ليتناول صحيفة الأخبار. لاحظت أن أصابعه ترتعش وأن عرقا يغطيها حتى يكاد يتبلر في نقط لامعة. وأشار إلى العناوين الرئيسية للجريدة، وقال وهو يكاد يبكي :
شفت ...
قلت :
شفت ؟
___________________ التوقيع _________________
